نداء من تحت الرمال
لم تكن مكتبة الجامعة يومًا مجرد رفوفٍ صامتة، وكنت أعرف ذلك… لكنني لم أتوقع أن يكون أول سرٍّ يوقظ النبض في قلبي مجرد ورقة!
ورقةٌ وحيدة، صفراء، مختومة بختمٍ قديم انطمست ملامحه، تتوسطها صورة لا تنتمي لعصرنا، وحولها كلمات غامضة كأنها نجت من عتمة آلاف السنين.
ساورني إحساسٌ لا تفسير له… إحساس بأن أحدهم كتبها لأجلي أنا.
همستُ بخفوت، بينما أزيح طبقات الغبار عنها:
"لكل غموضٍ مفتاحه… ولكل سعيٍ نتيجته."
لكن الهمس تحطّم أمام صراخٍ اخترق صمت القاعة:
ـ "أستاذة هدى! الطلاب أحدثوا فوضى… الوضع خارج السيطرة!"
وحين دفعتُ باب القاعة، ارتدّ الطلاب إلى أماكنهم بسرعةٍ غير بشرية، كأن الظلال كانت تطاردهم. نظرتُ إليهم نظرةً واحدة… فنزل السكون دفعةً واحدة.
صرخت:
ـ "لا أريد حتى نفسًا زائدًا! ومن يكرّر الفوضى محرومٌ من الحصة القادمة ودروس الدعم."
كنت صارمة، نعم…
لكن الانضباط كان سلاحي الوحيد في عالمٍ ينهش تركيز هذه الأجيال.
ـ "ما آخر ما درسناه؟"
فوجئت بحماسٍ جماعي:
ـ "العصر القديم يا أستاذة… المغارات القديمة!"
تجمّد داخلي للحظة. المغارات؟
الموضوع نفسه الذي لامسته الورقة المريبة.
حتى طارق… الطالب الكسول الذي نادرًا ما يرفع رأسه… وقف يشرح آخر فقرة من درس المغارات، كأنه يريد أن يُثبت شيئًا.
وكأن الجميع… من دون أن يشعروا… كانوا يدفعونني نحو شيءٍ ما.
سرحت قليلًا. شعرتُ كأن شيئًا يضغط على ذاكرتي، كأن صوتًا قديمًا يهمس في أعماقي.
ثم قلت فجأة:
ـ "لن نكمل الدرس اليوم. الأسبوع القادم نبدأ سلسلة جديدة… عن أعمق منطقة في صحرائنا الكبرى. وكل واحد يُحضّر مقالة كاملة."
عمّت الدهشة الوجوه. كانوا ينتظرون تتمة الدرس بشغف… لكنها لم تعد تهمّني بعد الذي وجدته بين صفحات الكتب في الصباح.
شعرتُ بأن خيطًا خفيًا يشدّني نحو سردابٍ مجهول.
بعد انتهاء الحصة، غادر الطلاب تاركين على مكتبي رسائلهم الصغيرة وهداياهم البسيطة.
أحتفظ بكل شيء… أخبئه في صندوقٍ بغرفتي الجامعية، كأنني أتمسّك بما يمنحني طلابي من دفءٍ عوضًا عن الدفء الذي فقدته منذ زمن.
فلا شيء ينتظرني في بيت أبي… فقط زوجةُ أبٍ قاسية، وأبٌ شيخٌ تلاشت ملامح اهتمامه منذ رحيل أمي، وأخٌ سافر إلى المجهول.
كنت أعيش سكينة اكتسبتها بصعوبة… سكينة أخشى أن يُفسدها أي صوت.
تلك الليلة، خرجتُ إلى الشرفة أقرأ كتابًا جذب عنوانه انتباهي، لكن شيئًا آخر جذب عيني…
شيخٌ طويلٌ، أسمر البشرة، يرتدي زيًّا صحراويًا عتيقًا: شتش، وبرنوس، وسروال الشلقة.
كان يقف تحت شرفتي مباشرة، ويتمتم بكلمات لم أسمع مثلها قط…
الكلمات نفسها التي قرأتها في الورقة المختومة.
تجمّدت.
كيف دخل الحرم الجامعي؟ ولماذا كان ينظر مباشرة نحو الرواق الذي أقطنه؟
لم يكن أحدٌ يعبر تلك الساحة في هذا الوقت المتأخر.
شعورٌ غريب لامس قلبي…
ليس خوفًا… بل اعترافًا.
كأن روحي تعرفه منذ زمن.
فكرت في أن أنزل إليه… أسأله… أفهم.
لكن الجامعة كانت فارغة، والليل يتثاقل على الأرواح.
في الصباح بحثت عنه.
لا أحد رآه.
لا طالب، لا عامل، لا إداري…
وبعض الأساتذة ضحكوا ساخرين حين وصفت مظهره.
لكنني لا أخطئ الوجوه.
وذلك الرجل… لم يكن من عالم الصدف.
عدت إلى مكتبي لأتابع كتابة مقالاتي التاريخية؛ أعرف أنها ستفتح أبواب انتقاداتٍ كثيرة… وربما صراعات.
لكن الحقيقة لا تهرب من الجريء… وأنا تعبت من الجري.
رن الهاتف.
رقمٌ مجهول.
ـ "ألو؟"
جاءني صوت رجلٍ مسن، مشبع بالحزن والغموض:
ـ "أنتِ الأستاذة هدى… أليس كذلك؟"
ـ "نعم. من معي؟"
ـ "أنا الشيخ صالح… مدير المتحف والآثار التاريخية."
شعرت بقشعريرة.
لم أتعامل معه يومًا، ولا يعرف رقمي أحد خارج الدائرة الجامعية.
تابع بصوتٍ واثق:
ـ "أريد رؤيتك غدًا في المتحف البلدي. هناك أوراق وأبحاث ناقصة… وأظن أنها تخصك."
قلت بارتباك:
ـ "لكن يا شيخ… أنا لست باحثة رسمية."
ضحك ضحكة قصيرة تخفي وراءها شيئًا أعمق:
ـ "أنتِ لا تحتاجين شهادة… موهبتك تكفي. أنتِ تحلّين ما عجز عنه الزمن. وما لدي سيغيّر كل شيء."
ثم… همس بالكلمات نفسها التي قالها الشيخ تحت الشرفة.
تجمّد الدم في عروقي.
وقبل أن أنطق، قال:
ـ "انتظرينا غدًا… لا تتأخري يا هدى."
وانقطع الخط.
وتركتني المكالمة وحيدة…
لكنني، لأول مرة منذ سنوات، شعرت بأنني لست وحيدة حقًا.
شيء ما… أو أحد ما… اقترب مني كثيرًا.
وربما… كثيرًا جدًا.
الكاتبة :مونيا بنيو منيرة
تعليقات
إرسال تعليق