أيلول…
يا شهرًا يتقدّم بخطى بطيئة، كأنّه يتلذّذ بجرح الأرواح قبل أن يرحل.
فيك تتداخل قسوةُ الطقس مع خيبة البشر،
فيك يهبط الهواء بارداً كالسياط على الوجوه،
وفيك تذبل الثقة كما تذبل أوراق الأشجار،
لتتساقط الواحدة تلو الأخرى بلا وداع،
حتى تفرغ الغصون من كل أمانٍ كانت تُزيّنها.
أيلول…
علّمتنا أن لا نغترّ بالسماء حين تبتسم،
فقد تخفي وراء زرقتها عاصفة،
كما يخفي البشر وراء ابتساماتهم قلوباً مُقفلة
تطعن دون صوت.
يا شهرًا تُشبهه الوجوه المتقلّبة:
يأتوننا بأيدٍ دافئة، ثم يتركوننا في بردٍ
لا تُدفئه نار ولا تبرّره حجّة.
فيك نكتشف أن القسوة ليست في الريح الباردة،
ولا في الليل الطويل،
بل في تلك الوعود التي هوت كأوراق الخريف،
في الكلمات التي تكسّرت كزجاج هشّ تحت أقدام الغياب،
في العيون التي أدارت وجهها ومضت،
كأنّ القلب الذي منحها الدفء لم يكن يوماً موجوداً.
أيلول…
يا مدرسة الخيبة، ويا معجم الوداع،
يا شهرًا يذكّرنا أن للغيوم لغةً تشبه الصمت الثقيل،
وأن للبشر ملامح تتقن الخذلان أكثر مما تتقن الحضور.
نحن فيك نتعلّم كيف نصبر على لسعة البرد،
لكننا نعجز عن الصبر على لسعة الكلمة،
وعلى خيانة العهود التي تترك في القلب
برداً لا يذوب ولو أشرقت شمس العمر بأكملها.
أيلول…
امضِ عنّا،
لقد أنهكتَ قلوبنا بين صقيع الجو وثلوج البشر،
وتركتنا نبحث عن دفءٍ لا تمنحه المواقد،
ولا تمنحه الأكتاف،
دفء لا يصنعه سوى قلب صادق
لا يُشبه تقلّب الفصول،
ولا يخذل كما خذلتنا شهورك الثقيلة.
بقلم: عباس انفال وجدان
تعليقات
إرسال تعليق