التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حوار صحفي مع الكاتبة ناعم زينب جيهان

في مجلة إيلزا، لا نبحث عن بريق اللحظة، بل عن ذلك النور الخافت الذي يخرج من العتمة بتأنٍّ، ليضيء ما لم نرَه من قبل.
تطلّ علينا اليوم جيهان، لا كوجه عابر من جيل 2001، بل كصوت يحمل نضجًا لا تحدّه السنوات، وفكرًا شابًا يتكئ على تجربة داخلية أكثر من كونه ثمرة أعمارٍ أو شهادات.
هي لا تكتب لتُقرأ، بل لتوقظ. لا تتحدث من منصة، بل من مقعد مجاور، كأنها تهمس في أذن القارئ: “انظر من جديد، وافهم أعمق.” في مشروعها التربوي، كما في نظرتها للحياة، تختار أن تقف إلى جوار الطفل، لا فوقه، وأن تُعيد تعريف الكتابة، لا كمهنة، بل كمسؤولية.
في هذا الحوار، لا نكتفي بالسؤال عن أفكارها… بل نلحق أثرها حيث لا تُرى، ونكتشف أن بعض الأجوبة لا تُقال، بل تُشعَر.

 1. بداية أنتِ ابنة 2001، لكن لغتك الأكاديمية والفكرية توحي بتجربة أعمق زمنيًا… هل هو تسارع نضج، أم اختيار وعي؟

سؤال جميل وعميق، وشكرًا عليه.
بالنسبة لي، يمكنني القول إنه مزيج من تسارع النضج و اختيار الوعي.
تسارع النضج جاء نتيجة لظروف وتجارب حياة مكثفة جعلتني أعيش مراحل متقدمة من الوعي في سنّ مبكرة. أما اختيار الوعي، فهو قرار داخلي. أنا اخترت أن أكون قارئة، متأملة، ومحللة لما حولي، لا مجرد عابرة ضمن المشهد.
في سن صغيرة، كنت أرى الطفولة أكثر من مجرد مرحلة لعب، بل نواة إنسان المستقبل. فبدأت أكتب عنها، أراقبها، وأتساءل… كيف يمكن أن ننشئ هذا الإنسان بطريقة صحية، واعية، متوازنة؟ هكذا تولد المشروع التربوي والفكري لديّ.
ربما العمر البيولوجي هو 2001، لكن الزمن الفكري يتشكل بما نغذيه لعقولنا وأرواحنا، وليس بما يُكتب في بطاقة الهوية.

2. برأيك، هل الكتابة عن الطفل تحتاج إلى طفولة محفوظة أم طفولة مفقودة؟ وأين تقفين بين الحالتين

سؤال عميق، يحمل من الدلالة ما يجعلني أتباطأ في الإجابة احترامًا له…
الكتابة عن الطفل لا تحتاج إلى طفولة محفوظة ولا مفقودة بالضرورة، بل تحتاج إلى طفولة مُعاشة، سواء عشتها بكمالها أو بنقصها. فالمحفوظة تمنحك الحنين والنموذج، والمفقودة تمنحك الشغف بالتعويض والترميم، وكلاهما يمكن أن يكونا وقودًا للكتابة، بشرط أن يُعاد تشكيلهما بوعي ناضج، لا بردة فعل عاطفية.
أما عني، فأقف بين الحالتين… لم تكن طفولتي مثالية، لكنها لم تكن مظلمة. فيها ما يُفتخر به، وفيها ما يُرمم بالكتابة. ربما لهذا السبب أكتب عن الطفل لا من برج عاجي، بل من "تجربة شعورية داخلية"، ومن محبة حقيقية لهذا الكائن المتحول دائمًا، الباحث عن فهم، لا حشو.
الكتابة عن الطفولة ليست محاولة لفهم الطفل فقط… بل لفهمنا نحن حين كنا أطفالًا، وما تبقى منا فيهم.

3. في مشروعك حول “التنشئة التكنولوجية”، ما هو الخطر الأكبر: التكنولوجيا بحد ذاتها، أم غياب الوعي التربوي في التعامل معها؟

في مشروع "التنشئة التكنولوجية"، أرى أن الخطر الأكبر لا يكمن في التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في غياب الوعي التربوي في التعامل معها.
التكنولوجيا، في جوهرها، أداة محايدة، تحمل إمكانيات هائلة للتمكين والتعلم والإبداع، لكنها كالسيف، إن استُعملت بلا وعي، قد تُفقد الطفل براءته، تركيزه، وحتى هويته. الخطر ليس في الشاشة، بل في غياب التوجيه. ليس في الذكاء الاصطناعي، بل في انطفاء الذكاء الإنساني المواكب له. نحن لا نواجه طفرة أدوات، بل فجوة وعي.
التربية في عصر التكنولوجيا ليست "منعًا أو سماحًا"، بل مرافقة وتشكيل وعي رقمي منذ السنوات الأولى، حيث نعلّم الطفل أن يمسك الهاتف كما يُمسك بالقلم: بإدراك، لا بإدمان. إن جوهر التربية هنا ليس أن نُبعد الطفل عن التكنولوجيا، بل أن نقرّبه من ذاته وهو يتعامل معها، أن نحمي إنسانيته من ذوبان الصمت وسط ضجيج الإشعارات.
فالخطر الحقيقي ليس "ما يراه الطفل"، بل "كيف يرى ما يراه"، وهنا تبدأ مهمتنا التربوية.

4. أطلقتِ على أحد كتبك مصطلح “فن ومهارة” في التنشئة… هل ترى جيهان أن التربية علم يُدرّس، أم حسّ يُولد؟

"فن ومهارة في التنشئة" هو العنوان الذي اخترته لسلسلة تربوية أطلقتها، تعالج مختلف أبعاد تنشئة الطفل في سياقاتنا المعاصرة. وأنا أرى أن التربية ليست مجرد علم يُدرّس، بل هي التقاء بين الحسّ والمعرفة، بين الفطرة والخبرة. نعم، نحتاج إلى العلم لنفهم مراحل النمو واحتياجات الطفل، لكننا بحاجة أيضًا إلى حِسّ داخلي، إلى ذكاء عاطفي، إلى قلب يرى ما لا يُقال. فالتربية في جوهرها ليست تطبيق قواعد بقدر ما هي إصغاء دائم، فهم متجدد، ومرافقة حية للطفل وهو يتشكل إنسانًا.

5. تتحدثين عن الوعي كثيرًا في كتاباتك… ما هي اللحظة التي شعرتِ فيها أن وعيك التربوي انتقل من التنظير إلى التأثير؟
أظن أن التحول من التنظير إلى التأثير لا يحدث فجأة، بل يتسلل خلسة… كأن شيئًا فيك ينضج بصمت، حتى إذا ما التقيت بأمٍّ تبكي لأن سطرًا من كتابك أنقذ علاقتها بابنها، أو تلقيت رسالة من معلمة تقول إن صفحتين فقط جعلتاها تعيد النظر في كامل ممارستها، تدرك أن الوعي لم يعد فكرة على الورق… بل صار نبضًا يمتد خارجك، ويصل.
لقد شعرتُ أنني عبرت تلك العتبة يوم كففتُ عن الكتابة من أجل الإقناع، وبدأت أكتب من أجل الإيقاظ. يوم لم أعد أبحث عن الصواب، بل عن العمق. منذ تلك اللحظة، لم أعد أرى التربية كقائمة تعليمات، بل كمرآة… كلما تعمق فيها فهمي للطفل، انكشف لي وجهي الحقيقي أكثر.ح

6. كيف تتعاملين مع النظرة النمطية التي تحصر الشابة الجزائرية بين صورتين: إمّا المناضلة العنيفة أو الفتاة الحالمة؟ وأين تصنّفين نفسك؟
تزعجني هذه الثنائية المختزِلة، لأنها تضع الشابة الجزائرية في قالبين سطحيين يتجاهلان عمق تجربتها وتعدّد أدوارها. لستُ مناضلة بالمعنى الكلاسيكي، ولا فتاةً حالمة بالمعنى الرومانسي؛ أنا امرأة تؤمن أن الفعل الحقيقي يبدأ من الداخل، من قرار واعٍ بأن تكون فاعلًا في زمن يميل لقولبة النساء. أرفض أن أختار بين القوة والحلم، بل أُعيد تعريفهما بطريقتي: أن أكتب، أن أربي، أن أغيّر الوعي، هو شكل من أشكال المقاومة الهادئة والتأثير العميق.

. في كتاباتك، هناك نوع من “الانحياز” للطفل… هل تشعرين أنه الطرف الأكثر ظلمًا في معادلات الحياة؟

نعم، أقرّ بانحيازي التام للطفل، ليس من باب الشفقة، بل من باب الوعي بمكانته في معادلات الحياة التي غالبًا ما تُدار بمنطق الكبار. الطفل لا يختار بيئته، ولا لغته، ولا حتى توقيت مجيئه إلى العالم، ومع ذلك يُحمّل تبعات لا يد له فيها. أراه الطرف الأصدق، والأضعف في آن، وكل انكسار في طفولته يترك صدًى بعيد المدى في مستقبل الإنسان الذي سيصبحه لاحقًا. لذلك، أكتب من أجله… لأمنحه صوتًا في زمن يعلو فيه ضجيج الكبار.

8. هل تعتقدين أن الجزائر اليوم تُنصف الكفاءات الشابة فكريًا وثقافيًا؟ أم أن الفكرة لا تزال تُختبر في صمت؟

أظن أن الجزائر، مثل كثير من المجتمعات، لا تزال في طور اختبار الفكرة أكثر من تطبيقها؛ فالكفاءات الشابة تُلمَح ولكن لا تُحتَضن بما يكفي، وتُصفَّق لها أحيانًا من بعيد، ولكن نادرًا ما يُفسَح لها المجال لتقود من الداخل. هناك وعي متصاعد بأهمية الطاقات الجديدة، لكن ما زال الواقع يحتاج إلى جرأة مؤسساتية تعترف بأن الفكر الشاب ليس مشروعًا هشًا، بل قوة بناء وتغيير. نعم، الفكرة تُختبر في صمت… ولكن الصمت نفسه قد يكون تمهيدًا لصوت قادم.

9. بين الكتاب الورقي والمقال الرقمي… كيف توازن جيهان بين الحاجة للتأثير الجماهيري والحفاظ على قيمة العمق المعرفي؟

أؤمن أن التأثير الحقيقي لا يُقاس بعدد القراءات بل بعمق الأثر، ولهذا أحرص دائمًا على أن لا يطغى الإيقاع السريع للمقال الرقمي على جوهر الفكر. أكتب مقالاتي الرقمية بروح الباحثة، لا بروح المتعجّلة لإعجابٍ عابر، وأراها فرصة لجعل المفاهيم المعرفية في متناول القارئ العام دون أن أفقدها قيمتها أو صدقها. أما الكتاب الورقي، فهو مساحة للتأمل الطويل، لحوار هادئ مع قارئ يمنح الفكرة وقتها واحترامها. التوازن بينهما ليس تحديًا بقدر ما هو وعيٌ بالمهمة: أن أكتب لا لأُبهر، بل لأُثري.

10. وأخيرًا، إن التقيتِ بطفل لا يجيد التعبير عن ألمه… بماذا ستبدئين حديثك معه؟ وبماذا تختمينه؟
سأجلس بقربه بصمت أولًا، وأترك للسكوت لغةً تسبق الكلام، ثم أهمس له: "هل تعلم؟ حتى الوردة حين تنكسر لا تُحدث صوتًا، لكنها تذبل ببطء… هل في قلبك شيء يذبل؟"
سأدع له المجال ليشعر أن ألمه مفهوم دون أن يضطر لشرحه، وسأبني معه جسرًا من الأمان لا من الأسئلة.
وفي الختام، سأربت على قلبه وأقول: "لا بأس إن تعبت، أنا هنا لا لأسمعك فقط، بل لأشعر بك… وسنمشي سويًا حتى وإن لم تعرف الطريق بعد.

ليست كلّ الإجابات نهائية، وليست كلّ الأسئلة بحاجة إلى حل… بعضها يحتاج فقط إلى وعيٍ يرافقه، وهدوءٍ يعيد صياغته.
في حديثنا مع جيهان، لم نلمس مجرد معرفة، بل لمسنا إنسانة تُعيدنا إلى أصل الفكرة: أن التربية ليست فعل تعليم فقط، بل فعل حبّ، وأن الكتابة ليست أداة تعبير، بل موقف من الحياة.
بين صفحات أفكارها، هناك طفل لا يزال ينتظر أن يُفهم. وبين سطورها، هناك وطن لم تُغلق قضاياه، لكنه يجد من يحاوره بلغة لا ترفع الصوت، بل ترفعه.
جيهان ليست حالة استثنائية لأن عمرها صغير وفكرها كبير… بل لأنها اختارت أن تنمو إلى الداخل، حيث لا تصفيق ولا أضواء، فقط أثرٌ حقيقيّ… يبقى.
المؤسسة مجلة إيلزا الأدبية للإناث الجزائرية 
المديرة بشرى دلهوم الجزائرية 
المحاورة :الصحفية أسماء أقيس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار صحفي مع الكاتب محمد بالحياني مع مجلة إيلزا الأدبية للإناث

حوار مع الكاتب والأستاذ محمد بالحياني المقدمة: هناك كُتّاب لا يكتبون لمجرد الكتابة، بل يحاولون أن يتركوا أثرًا، أن يحركوا شيئًا في القارئ، أن يجعلوا الكلمات مرآة تعكس واقعًا أو خيالًا يحمل بصماتهم الخاصة. محمد بالحياني، أحد هؤلاء الذين اختاروا أن يكون الحرف سلاحهم، والرؤية عماد نصوصهم. في هذا الحوار، نقترب من تجربته، نغوص في أفكاره، ونكشف أسرار رحلته الأدبية. المعلومات الشخصية: الاسم: محمد بالحياني السن:27سنة البلد:الجزائر- البيض الموهبة:كاتب الحوار: س/ مرحبا بك محمد تشرفنا باستضافتك معنا اليوم بداية كيف تعرف نفسك لجمهورك ومن يتابعك دون ذكر اسمك؟  ج/في الغالب أكون متحدث سيئ عن نفسي، لكن يمكنني أن أختصر بالفعل وأقول محمد عبد الكريم بلحياني ، من ولاية البيض بالضبط بلدية المحرة ، عاشق للكتابة ورائحة الكتب ، اعمل اداري للصحة العمومية ،  انسان مهووس بتفاصيل التفاصيل ، عاشق للكتابة وما يحيط بها من حالات متناغمة من الوحدة، الجمال، والتناسق مع الطبيعة ، كان اول مؤلف لي بعنوان الخامسة صباحًا الذي شاركت به في المعرض الدولي للكتاب سيلا 23  وثاني عمل كان رواية بعنوان بروخيريا التي ش...

( الشيروبيم) بقلم الكاتبة مروة صالح السورية

( الشيروبيم) مقدمة: في مكانٍ ما على سطح وجهها النقي ارتفعت الأمواج وأغرقت جُزراً بنية تحدّها شطآن وردية هذه الجزر التي لا نبحر إليها بل تبحر بنا إلى عالم لا يعرف الحروب ولا الجراح يقال إن الملائكة لا تُرى لكن هنا... ترسل السماء نوراً يجعل الزمن يحني رأسه إجلالاً لهذه اللحظة الخالدة التي سنشاهد فيها الشيروبيم يتجلى على هيئة ابتسامة تطوي المسافة بين الغرق والنجاة وتحيي الأمل في قلب كل من يؤمن بالأساطير وبأن حياةً جديدة قد تولد بعد الغرق النص: حين تبتسم تعلو أمواج خديها فتُغرق جُزر عينيها البنيتين وتُحلّق الفلامينغو من شطآن جفنيها الورديتين تلك الجزر وشطآنها التي تنقذني كلما واجهت تيارات بحر الحياة فأمكث بها لاكتشاف أساطير حبٍ جديدة حين تبتسم وفي منتصف شفتها العلوية يبسط طائر النورس جناحيه فتتوازن خطواتي وتتلاشى انكساراتي حين تضحك تدندن ضحكاتها على أوتار عمري فتصدر سمفونية سلام تنهي حروبًا وتشفي جراحًا لا علاقة لها بها حين تضحك تنكشف ثماني لآلئ بيضاء تنثر النور في ظلمات أيامي ويولد الفجر من جديد إنها ليست مجرد حركة شفاه... إنها لحظة خلود تتوقف عندها كل الأزمنة ومن رحم هذا السكون تُولد أع...

ركلة جزاء.pdf

 عنوان الكتاب : ركلة جزاء  مجموعة مؤلفين  إشراف وتدقيق : بشرى دلهوم تصميم وتنسيق : بشرى دلهوم  الناشرة :مجلة إيلزا الأدبية للإناث سنة النشر : 21جانفي 2025 لتحميل الملف اضغط هنا  ركلة جزاء.pdf