المؤثرون رفاهية مشوهة و وهم يخدر العقول
في زمنٍ تهيمن فيه منصّات التواصل الاجتماعي على إيقاع الحياة، تصدّر مشهدَ التأثير جيلٌ جديد من المؤثرين الذين لا يحملون من التأثير الحقيقي إلا الاسم. تحولوا إلى واجهات براقة تستعرض رفاهية مصطنعة، وسفرًا مبالغًا فيه، وحياةً منزلية لا تشبه واقع أحد، بينما تتلقفهم عيون المراهقات وقلوبهن الهشّة الباحثة عن صورة مثالية يجرّها الحلم من الشاشة إلى داخل غرفهنّ.
ما يُعرض اليوم ليس انعكاسًا لواقع حقيقي، بل نسخة مُعدّلة لحياة غير موجودة. بيوت فخمة تُعرض بأدق تفاصيلها، وجبات مُصوّرة كما لو كانت إعلانًا تلفزيونيًا، علاقات زوجية مُنمّقة لا أثر فيها للتعب أو الاختلاف، وجمال خارق حتى لحظة الاستيقاظ من النوم، ببشرة مشرقة وشعرٍ مصفف وكأن الحياة خالية من الإرهاق والضغط والانشغال. هذا التجميل المبالغ فيه، وهذه الصورة المزوّرة، تترك أثرًا عميقًا في وعي المراهقات، حيث تُزرَع لديهن قناعة بأن الحياة الحقيقية لا تليق بهن ما لم تكن بهذه المثالية المعروضة. يُصبحن أسرى مقارنات قاسية، يشعرن بالنقص تجاه أشكالهن وأسلوب حياتهن، ويُلاحقن معايير لا يمكن تحقيقها خارج عدسة مصوّر محترف وفلاتر تنحرف عن الواقع.
الأخطر من ذلك، أن هذه الظاهرة لم تتوقف عند حدود الجمال والمظاهر، بل تجاوزتها لتؤثّر سلبًا على العلاقات الزوجية. كثير من الأزواج بدأوا يقارنون زوجاتهم بتلك الصورة المثالية المعروضة يوميًا، امرأة لا تُرى إلا وهي تضحك أو تستعرض هدية من زوجها أو تحضّر طعامًا وسط أجواء خرافية. ويغيب عنهم أن تلك اللحظات ليست سوى مشاهد معدّة مسبقًا للتصوير، وأن خلف الكواليس، هناك حياة لا تختلف كثيرًا عن حياة أي زوجين آخرين، فيها ملل وتعب وسوء تفاهم. لكن الصورة المعروضة تكفي لتوليد فتنة بصرية ومقارنة ظالمة، قد تؤدي إلى تصدّع في العلاقة الحقيقية.
ما يُعرض تحت مسمى “محتوى مؤثر” لم يعد يحمل تأثيرًا حقيقيًا، بل تحول إلى استعراض متقن هدفه الأول والأخير حصد الإعجابات والإعلانات. ومن المؤسف أن هذا المحتوى، بكل سطحية مضمونه، ينجح في شغل الناس عن قضاياهم الجوهرية، فيلهيهم عن مآسي الشعوب، وأبسطها ما يحدث في فلسطين، حيث يُقصف الأطفال وتُدك البيوت، بينما تستمر حسابات هؤلاء المؤثرين في عرض جولات التسوق وتنسيق ديكور المطبخ، وكأنهم يعيشون على كوكب معزول عن الألم الإنساني.
حين تتأمل المشهد عن كثب، ترى مظاهر تفاهة ممنهجة تتكرّر بلا ملل: روتين صباحي مفبرك يبدأ بلقطة سريرية للاستيقاظ المثالي، تصوير للطعام وكأنه عرض عالمي، علاقات زوجية مبنية على المفاجآت والهدايا كأنها إعلان دائم للحب، مشتريات لا تنتهي في جولات تسوق تُغذي ثقافة الاستهلاك، أطفال يُستخدمون كوسيلة لزيادة التفاعل دون احترام لخصوصيتهم، وحتى لحظات الطلاق والانهيار تُعرض بطريقة تجميلية تحت إضاءة مدروسة وموسيقى حزينة… كل شيء عندهم قابل للتسويق، حتى الحزن.
وفي خضم كل ذلك، يصمتون أمام القضايا الكبرى. لا تضامن، لا موقف، لا كلمة. بينما العالم يئنّ، يستمرون في الترويج لأنفسهم ولمنتجاتهم. يتجاهلون الدم، ولا يرون إلا ترتيب البيت وألوان الجدران. هذا هو التأثير الجديد: أن تغمض عينيك عن الواقع، وتفتح هاتفك على وهم.
في النهاية، من المهم أن نعيد تعريف “التأثير”. التأثير الحقيقي ليس في الألوان ولا في المنتجات ولا في جمالية التصوير. التأثير هو أن تحرّك العقل، أن توقظ الوعي، أن تخلق حوارًا، أن تضع الإنسان أمام مرآة حقيقية لا مرآة وهمية. نحن لا نحتاج مزيدًا من الواجهات البراقة، بل نحتاج إلى حضور أصيل، إلى صوت يُعبّر، إلى فكر يقاوم التصنّع ويعيدنا إلى إنسانيتنا البسيطة.
ما نراه اليوم من هؤلاء ليس تأثيرًا، بل تمويه وتزييف. مجرد ترف سطحي يخدّر العقول ويغرقها في المقارنة، ويُربّي أجيالًا على أن الوجود مرهون بالشكل، والنجاح مرهون بعدد المشاهدات، والقيمة تُقاس بمحتوى فارغ لا يُغني ولا يُثمر.
فلنتوقف قليلًا. لنراجع من نتابع، وماذا نستهلك، وما الذي يدخل عقولنا كل يوم دون أن نشعر. لأن ما يبدو ترفيهًا عابرًا، قد يكون في حقيقته أخطر وسائل تدمير الذوق والوعي والإدراك.
أسماء أقيس
تعليقات
إرسال تعليق