الأخلاق.. الشعلة التي لا يجب أن تنطفئ
في خضمّ عالم سريع التغيّر، تتبدّل العادات وتُعاد صياغة القيم وفق إيقاع الحياة العصرية. وبين هذا التسارع، بدأت تظهر سلوكيات حديثة تسللت إلى حياتنا اليومية حتى باتت تشكّل ما يشبه "الآفات المجتمعية المعاصرة"، التي لا تؤثر فقط على طريقة تفكيرنا وسلوكنا، بل تمسّ بعمق وعينا، وتفصل الإنسان شيئًا فشيئًا عن روحه الحقيقية وفطرته الأصيلة.
ومن أبرز هذه الظواهر وأكثرها خطورة: تغيّر الأخلاق.
إن القيم الأخلاقية لم تكن يومًا ترفًا ثقافيًا أو مجرد شعارات نُعلّقها على الجدران، بل هي أساس بناء الإنسان والمجتمع والحضارة. فالأخلاق هي لغة الروح، وهي التي تُهذّب الفطرة وتضبط الغرائز، وهي التي تحفظ للإنسان إنسانيته وسط صراعات المادة والصوت العالي للمظاهر.
لقد أدركت الأديان السماوية، وعلى رأسها الإسلام، هذه الحقيقة، فجاءت تؤسس لبُعد أخلاقي متين، وبيّن الرسول الكريم ﷺ الهدف من بعثته بقوله: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وكان القرآن واضحًا حين وصفه بقوله: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ"، ليجعل من الأخلاق قوام الدين، وركيزة التعامل، وميزان التفاضل الحقيقي بين الناس.
ورغم ذلك، أصبحنا اليوم نشهد انسلاخًا تدريجيًا عن هذه القيم. بات الصدق يُنظر إليه بسذاجة، والتسامح يُفسَّر ضعفًا، والرحمة أصبحت رفاهية نادرة. في المقابل، انتشرت سلوكيات كالأنانية، والغضب السريع، والعنف اللفظي والجسدي، والانغماس في اللهث وراء المال والمكانة، حتى فقد الكثيرون بوصلتهم الداخلية.
إن أخطر ما في هذا الانحدار الأخلاقي، أنه لا يُحدث فقط شرخًا في العلاقات بين الأفراد، بل يترك أثرًا سلبيًا عميقًا على بنية المجتمع بأسره، بل وعلى البيئة النفسية المحيطة بنا. فحين تغيب القيم، يعلو الضجيج، وتُطفأ الأنوار، وتتحول الحياة إلى منافسة غير نبيلة تفتقر للمعنى.
لكن الأمل لا يزال ممكنًا.
بل هو يبدأ من الفرد، من قرار داخلي يتّخذه كل واحد منا أن يكون مختلفًا. أن يكون هو النور وسط العتمة. أن يختار الأخلاق رغم قبح ما حوله، وأن يتمسّك بالصدق والرحمة رغم قسوة الآخرين.
أن يكون ذلك الشخص الذي يُلهم، لا بخطاباته، بل بسلوكه. الذي يُحيي الأرواح بالكلمة الطيبة، والموقف النبيل، والصبر الجميل.
لا تنتظر أن يتغير الجميع.
بل تذكّر أن الأخلاق ليست رد فعل، بل هي اختيار ثابت لا يتأثر بضجيج الخارج.
كن أنت الشعلة التي احتفظت بضوئها، والعقل الذي حافظ على وعيه، والقلب الذي لم ينسَ كيف يُحبّ، ويعفو، ويمنح.
ففي زمن فقدت فيه الأشياء معناها، تبقى الأخلاق هي المعنى، وهي الرسالة، وهي الإرث الذي يبقى بعد الرحيل.
بقلم/ رنا ماهر
تعليقات
إرسال تعليق