التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قصة ميت بقلم الكاتبة متمردة مزاجية

ميت، أو هكذا أراه بين فكي عاشقه الآثم الذي يتلبسه عللا لا حصر لها، يذوي رويدًا رويدًا كأنه يودعني دون وداع. لست جاهزًا بعد، لتلقي الطعنة بقلبٍ عارٍ، ولكن... لماذا كلما نظرت إليه خذلني الثبات؟

يبدو الكون مقفرًا، كأن المكان مهجور، وأضغاث الأنفاس أثقل من أن تُحمل في رئتين. شاحب كأن الموت استنزفه، وبدا كأنه شحوب الصحراء. ضائع هو الآن في غياهب مرضه، كأنه ملَّ الأمل وبدأ ببطء ينسج لي وداعًا.

يتهاوى جسده، وتسقط ذاكرته، وتضمحل مقدساته واحدة تلو الأخرى. يعجز حتى عن الألم، وشيئًا فشيئًا تنزف أحلامه. يباعد الحياة خطوة كل ليلة، ويرسل أحيانًا نشيجًا تبكي له السماء. عيناه فارغتان، صامتتان، كأنهما لم تعودا تجرؤان على قص ما يشعر به. هو فقط مسترسل في معاناته. خدج أنفاسه كأنه أنجبها قبل أن تكتمل، وخلف كل نفس تصّعّد في المقلتين دمعة، وتنتحر تلك الدمعة في الأهداب، كأن أنفاسها قصيرة، لا طاقة لها لتبلغ الألم.

دهره كان في وقت ما ليلة أو بعضها، وجسده الذي كان زينته لم يعد إلا حملًا يكسر الفؤاد. وما أدراك أن يقصم فؤادك جسد؟

تراه متململًا، يقلبه الأنين ذات اليمين وذات الشمال، وكأن الروح ملت الجسد. ورغم جرعات الوخز المتواترة، ترى روحه قد ترهلت من انتظار الشفاء. يصارع فكره المجحف وأقداره التي أصبحت شبه يقين في معشر الأطباء. يمني نفسه تارة بالتعافي كلما أشرقت شمس، ويخر صريع أنينه ويأسه كل مساء. خلف صمته المدقع يربض وحش يأس، ويتمنى أحيانًا كثيرة أن يهجر الوجود خلف مطلب الراحة من كم هذا الشقاء.

أطرافه التي كانت أجنحة أمله، وكثيرًا ما جعلته يطاول عنان الحلم، ها هي الآن تهوي به في عمق قعر العجز ونوبات البكاء. كثيرًا ما يرجف لمجرد أن تلمسه، لأن لمستك البسيطة بالنسبة له أعنف من أعنف صعقات الكهرباء. واهتزاز ذلك الجسد الهزيل يشبه كثيرًا ارتجاف الأغصان في موجة ريحٍ هوجاء. كلما تعوَّد على ألم، تفنن المرض في نوبة أعنف، ولا يمهله المرض وقتًا حتى ليعتاد. لا يعرف ليله من نهاره، فهو مشغول حدَّ التيه بإيجاد أسلوب للصبر على معاناته. يشرد لدرجة أن ينسى من حوله أو ما يُقال، حتى أنه صار أحيانًا كثيرة لا يعي ما يجري.

مات شغفه بالكرة التي كانت يومًا هوسه، تخلى عن متابعة الأخبار، وتقوقع في عالمه المظلم، كأنه يخبر العالم حوله أن لا رغبة له في المزيد من أي شيء. فكرته عن الأمل هي أن يعود لسابق عهده، هكذا بقدرٍ أحمق صيغ في وقت استجابة دعاء.

ما زالت إشراقة الصبح بالنسبة له تجسد حربًا شرسة مع يأسه، ولكنه تراه أحيانًا ذابلًا كخيبة كبرى على أعقاب أجمل الأحلام. كلما تمكن منه اليأس، بثه الله بعض أمل، يتواتر بين هذا وذاك. لا هو من الناجين، ولا من الهالكين. مشرقًا... مظلمًا، عابسًا... مبتسمًا، شاحبًا... متوردًا، مقفرًا... مكتظًا، مضطربًا. هكذا يقضي يومه بين البياض والسواد، بين الأمل واليأس، بين الحياة والموت، لا يقين لديه عن غده.

كثيرًا ما يتساءل: ما الذي اجترحته من ذنب ليُصب عليَّ سوط هذا العذاب؟ هل فعلًا استحققت بتاريخي القديم أن يكون هذا هو العقاب؟! أم أنا من المصطفين لأكون حين البعث نقيًا؟ ولكن، هل أملك من الصبر ما يكفي لاحتواء هذا الكم من الوجع؟ يردد منهكًا: يا إلهي، خذ أمانتك، لا طاقة لي اليوم بهذا القدر من العذاب. اليوم بالنسبة له نسخة مزيدة ومنقحة من تلك الشظايا المنغرزة بتفنن في عمق أمله.

يصارع سخطه على قدره بقلبه المؤمن، ويصرعه سخطه على ما يواجه من شقاء. لا يدري: أهو عبد مؤمن، أم قلبه صار مرتعًا للكفر؟ يتآكله الندم كلما ناشد الله أن يأخذه، ولكنها سطوة الألم، لا رحمة في قاموسها، تصيِّر النساك عصاة. مواجهته للمرآة هاجسه المميت. ما زال يعدد ملامحه المفقودة منذ بدأ المرض، وعيون من حوله قاموس يفسر فيه ما يمر به من تقهقر. مرة يستبشر، ومرة يقنط، كأنه بعد لحظة سيرحل.

تأخذه الجرأة فيواجه هاجسه، يقف شارداً أمام المرآة، يبحث عن تفصيل واحد يخبره أنه يتحسن. يغرق في نوبة صمت، كأنه فقد الحس بالعالم الخارجي أمام هول الملامح. ها هو يرى شخصًا يعرفه، ولكنه منسل الروح. شخص أتلفه التعب، ونهشته الآلام، وأفقده القدر تفاصيل الحياة. لا شيء في وجهه ينبض بالحياة، فقط هشيم من غبار شخص يعرفه. يراود عقله بالأمل، فيستعصم ويأوي إلى غياهب البكاء، ليخفف عنه وطأة الانسلال من الحياة على غير إرادة منه.

كيف يقف المرء قويًا أمام موته؟ هاهو يجر ضعفه مثقلًا بخيبته، بطيئًا نحو جحره المظلم، ليعود إلى فوهة اليأس، بأعين فارغة من الحلم. عائد إلى ذبوله بعد شروق الأمل، لا يريد أن يقف هنيهة أمام هذا الغريب الذي يملؤه ذلًا ورهبة، ويكشف عن ساق المخيف من ظلمة الهواجس.

يفقد رغبته في الكلام، يغرق بالساعات في خفوت تواصله بما حوله، يحيط نفسه بسلك شائك من الحدة، يرى أنه وباء على الجميع، فاعتزاله يسلبه أوهامه لذة آماله.

لا أحد يعلم ما الذي يحدث به نفسه، فقط تقطيبة الجبين تحكي عن وجعه المغمور تحت كم هائل من الصمت. يمارس فتات حياته بنزعة الغضب، ويغرز أظافر غضبه في عنق يأسه، يتشبث ربما بما تبقى في غياهب روحه من أمل. لا تجرب مطلقًا التعاطي مع أعراضه، ستكون وحدك المتلقي لردود فعله. يرخي رُسن تطلعاته للغد، ويتركه يأتي كما شاء، لم يعد يفرق كثيرًا ما سيأتيه به الغد.

بالأمس كان كالجبل، أشمَّ الأنف، آماله تجاوزت الواقع بأشواط، واليوم ينازع جاهداً ليأتي بالغد. بالأمس كانت أمنياته كثيرة، واليوم له حلم واحد: أن يقف دون مساعدة على قدميه. هل سأراه يومًا كما كان، جبارًا عظيمًا؟
بقلم الكاتبة متمردة مزاجية 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار صحفي مع الكاتب محمد بالحياني مع مجلة إيلزا الأدبية للإناث

حوار مع الكاتب والأستاذ محمد بالحياني المقدمة: هناك كُتّاب لا يكتبون لمجرد الكتابة، بل يحاولون أن يتركوا أثرًا، أن يحركوا شيئًا في القارئ، أن يجعلوا الكلمات مرآة تعكس واقعًا أو خيالًا يحمل بصماتهم الخاصة. محمد بالحياني، أحد هؤلاء الذين اختاروا أن يكون الحرف سلاحهم، والرؤية عماد نصوصهم. في هذا الحوار، نقترب من تجربته، نغوص في أفكاره، ونكشف أسرار رحلته الأدبية. المعلومات الشخصية: الاسم: محمد بالحياني السن:27سنة البلد:الجزائر- البيض الموهبة:كاتب الحوار: س/ مرحبا بك محمد تشرفنا باستضافتك معنا اليوم بداية كيف تعرف نفسك لجمهورك ومن يتابعك دون ذكر اسمك؟  ج/في الغالب أكون متحدث سيئ عن نفسي، لكن يمكنني أن أختصر بالفعل وأقول محمد عبد الكريم بلحياني ، من ولاية البيض بالضبط بلدية المحرة ، عاشق للكتابة ورائحة الكتب ، اعمل اداري للصحة العمومية ،  انسان مهووس بتفاصيل التفاصيل ، عاشق للكتابة وما يحيط بها من حالات متناغمة من الوحدة، الجمال، والتناسق مع الطبيعة ، كان اول مؤلف لي بعنوان الخامسة صباحًا الذي شاركت به في المعرض الدولي للكتاب سيلا 23  وثاني عمل كان رواية بعنوان بروخيريا التي ش...

( الشيروبيم) بقلم الكاتبة مروة صالح السورية

( الشيروبيم) مقدمة: في مكانٍ ما على سطح وجهها النقي ارتفعت الأمواج وأغرقت جُزراً بنية تحدّها شطآن وردية هذه الجزر التي لا نبحر إليها بل تبحر بنا إلى عالم لا يعرف الحروب ولا الجراح يقال إن الملائكة لا تُرى لكن هنا... ترسل السماء نوراً يجعل الزمن يحني رأسه إجلالاً لهذه اللحظة الخالدة التي سنشاهد فيها الشيروبيم يتجلى على هيئة ابتسامة تطوي المسافة بين الغرق والنجاة وتحيي الأمل في قلب كل من يؤمن بالأساطير وبأن حياةً جديدة قد تولد بعد الغرق النص: حين تبتسم تعلو أمواج خديها فتُغرق جُزر عينيها البنيتين وتُحلّق الفلامينغو من شطآن جفنيها الورديتين تلك الجزر وشطآنها التي تنقذني كلما واجهت تيارات بحر الحياة فأمكث بها لاكتشاف أساطير حبٍ جديدة حين تبتسم وفي منتصف شفتها العلوية يبسط طائر النورس جناحيه فتتوازن خطواتي وتتلاشى انكساراتي حين تضحك تدندن ضحكاتها على أوتار عمري فتصدر سمفونية سلام تنهي حروبًا وتشفي جراحًا لا علاقة لها بها حين تضحك تنكشف ثماني لآلئ بيضاء تنثر النور في ظلمات أيامي ويولد الفجر من جديد إنها ليست مجرد حركة شفاه... إنها لحظة خلود تتوقف عندها كل الأزمنة ومن رحم هذا السكون تُولد أع...

ركلة جزاء.pdf

 عنوان الكتاب : ركلة جزاء  مجموعة مؤلفين  إشراف وتدقيق : بشرى دلهوم تصميم وتنسيق : بشرى دلهوم  الناشرة :مجلة إيلزا الأدبية للإناث سنة النشر : 21جانفي 2025 لتحميل الملف اضغط هنا  ركلة جزاء.pdf