العمود الحر للمجلة
السؤال الذي يطرح نفسه
في حياة كل إنسان لحظات تتوقف فيها الأصوات من حوله، ويغيب فيها ضجيج العالم، لا لشيء إلا لأن سؤالًا ما بدأ يهمس في أعماقه. ليس سؤالًا سطحيًا يطرحه على الآخرين، بل سؤالًا يطرحه عليه قلبه، دون أن يستأذن. هذا هو السؤال الذي لا نختاره، بل يختارنا. يظهر دون موعد، يتسلل إلينا في عزّ انشغالنا، في لحظة صمت، أو نظرة عابرة من نافذة قطار، أو حتى في منتصف ضحكة لا تكتمل.
“هل هذا ما أريد؟”
“ما الذي أسعى إليه حقًا؟”
“لماذا أعيش هذا الشكل من الحياة؟”
“هل أنا كما أظن، أم كما أخشى؟”
أسئلة لا تأتي كالرعد، بل كنسيم خفيف يحمل في طيّاته زلزالًا.
السؤال الذي يطرح نفسه لا يطرق الأبواب بل يدخل من نوافذ الوعي المواربة، حين يتعب الإنسان من الركض خلف ما لا يُشبع، أو حين يتعثر بمرآته، ويكتشف أن الوجه الذي يراه لم يعد يعرفه تمامًا. إنه لحظة الصدق التي تنبت وسط الزيف، وشرارة الوعي التي تشتعل في منتصف العتمة.
إنه ليس علامة ضعف، بل دليل حياة. فالذين توقفوا عن التساؤل، غالبًا ما توقفت فيهم شرارة الإنسان. أما أولئك الذين يسمحون لهذا السؤال أن يظهر، ويتأملونه، وينصتون له، فإنهم يفتحون بابًا لا يُغلق إلى فهم أعمق للذات، للعالم، وللغاية.
وقد لا تكون هناك إجابة واضحة. فبعض الأسئلة لا خريطة لها، ولا نهاية، ولكنها تقودنا إلى أن نعيد تشكيل رؤيتنا، أن نصحّح المسار، أن نراجع خيارات ظننا أنها مقدسة، أو نكتشف أن ما كنا نهرب منه، هو في الحقيقة ما نحتاج إليه.
السؤال الذي يطرح نفسه لا ينتمي لمرحلة عمرية بعينها، ولا يميز بين غني وفقير، متعلم أو بسيط. إنه ضيف الجميع. قد يزورك مرة في العشرين، وأخرى في الأربعين، وربما كل مساء بعد أن يهدأ كل شيء، ويبقى صوتك الداخلي وحده.
إن أجمل ما في هذا السؤال أنه لا يطلب إجابة فورية، ولا يقبل الردود الجاهزة. هو يريدك أن تجلس مع ذاتك، أن تصغي بعمق، أن تنسى كل ما قيل لك، وأن تتحدث لأول مرة من دون أقنعة، ولا مخاوف، ولا مراوغة.
وفي النهاية، لعلّ السؤال الذي يطرح نفسه أهم من الإجابة ذاتها. لأنه يوقظك. يهزك. يعيدك إلى نقطة البداية، لا لتتراجع، بل لتبدأ من جديد، بخطى حرة، واختيار حقيقي.
فهل تسمح لهذا السؤال أن يُطرح؟
وهل تملك الشجاعة لتصغي، لا لتجيب، بل لتفهم؟
قد لا تكون الإجابة على السؤال الذي يطرح نفسه قريبة، وقد لا تأتي أبدًا بشكل كامل، لكنها ليست الهدف. فغاية هذا السؤال ليست الوصول إلى نقطة نهاية، بل أن نواصل المسير بوعي، أن نعيش حياتنا لا كمن يمرّ بها، بل كمن يصنعها لحظة بلحظة.
ليس من الضروري أن تغيّر كل شيء دفعة واحدة، لكن يكفي أن تبدأ في الإنصات. أن تتوقّف عن الهروب، وتسمح لصوتك الداخلي أن يتكلّم. في تلك اللحظة، يبدأ التغيير. ليس من الخارج، بل من الداخل، من هناك حيث تسكن حقيقتك التي طالما تجاهلتها أو خفت منها.
السؤال الذي يطرح نفسه ليس خصمًا نواجهه، بل رفيق طريق يرافقنا بصمت، وينتظر منا فقط أن نعترف بوجوده.
فهل تسمح له أن يرافقك؟
وهل تملك الشجاعة لأن تمشي معه ولو خطوة؟
الكاتبة أسماء أڨيس /فرنسا 🇫🇷
تعليقات
إرسال تعليق