ظلُّ أمي
بقلم: أحلام سويسي – تونس
في فناء البيت القديم، اصبح قديما مذ غادرته، حيث تُعلِّق الريحُ قصصها على ستائر الشبابيك، تختلط الروائح بين المسك و البخور وبين عطرٍ مألوفٍ يهرب من بين طيّات الزمن، رائحة لا تجدها الا في بيتنا. وكلما هبَّت نسمة، تتحرَّك الستائر بِثقلٍ أكثر من المعتاد، كأنَّ أحدًا يمرُّ خلفها بلُطف... ربما هي، أو ظلٌّ لها تأخرَ عن الرحيل.
كانت تخطو هنا بخُطى لا تُصدر صوتًا، كأن الأرض تخجل من أن تُزعج قدَميها. لم يكن جار ولا قريب ولا بعيد يسمع صوتها و لم تتذمر أو تشتكي يوما رغم كل مر تجرعته. أما الآن، فكل شيء هنا يئنُّ و يبكي فراقها، الساعةُ المعلقة على الجدار تُكرر نفسَ اللحظة منذ أن غابت، والراديو ينتظر أن تعدل موجاته على اذاعتها المفضلة، وفنجانُ شايها ما زال ينتظر على انية "العالة، عالة التاي"، كما كانت تسميها، مُتجمدًا بجانب الابريق و الكانون.
لم أعد أتعرف على نفسي في المرايا. فقدت شيئا ما لا اعرف له اسما و هزمني الفراق و انهكني الوجد. كل صباح، أحاول أن أفتح عينيَّ بنفس جديد على عالمٍ أصبح رماديًّا بلا ألوان، و نفسي مكبوت بلا وجدان. حتى زقزقة العصافير التي كانت تملأ الحي فرحًا، صارت تُذكّرني فقط بأن الفرحَ شيءٌ كان هنا يومًا. البيت أظلم و نور الشمس الذي يغمره أصبح يستحي الدخول، فمن سيزور ومن ستداعب اشعته؟ من كانت تحرص على تعريض كل ركن و كل قطعة من الأثاث لحرارته غادرت دون رجعة لذا كلما هم بالدخول بحث عنها و تراجع لأنها لم تستقبله ككل صباح. أحيانًا، ألمس ثيابها المعلقة في الخزانة و التي لم استطع اعطاءها لاحد، فأحسُّ بدفءٍ وهميٍّ، كأنها ستخرج من بينها لتقول لي: "هوّيتك كفاية، انت هنا و هذا الاهم". لكن لا شيء يتحرك إلا ذرات الغبار التي ترقص في شعاع الشمس الضيق لتذكرني ان اكون امتداد لها و تواصلا لقوتها و ارادتها. انا لست هي لكنها كانت تراني نسختها، حاولت أن تحميني مما عانت، و عاهدت نفسي ان لا اكرره كي لا تتألم مرة اخرى، سأكون لها مجدا و اكون لها فخرا.
كانت الأيام الأخيرة ثقيلة علينا لا عليها. فبارتقائها لجوار ربها هناك السعادة. مرضها جاء مثل ضيفٍ بلا استئذان، أخذها شيئًا فشيئا عاندته في البداية وتمسكت بأمل البقاء لأجلنا لا محبة في الحياة، لكنها استسلمت و سلمت أمرها حين استفحل و اقنعها انه لا بد من الرحيل، لمن سبقوها و احبوها و المها فراقهم، ستلحق بهم وهي مطمئنة انها ادت رسالتها على احسن وجه.
صمتها أصبح أعمق من أي حديث. أتذكر تلك النظرة الأخيرة، حين فتحت عينيها، ولم تقل شيئًا. كنت أريد أن أقول: "أحبك"، لكن الكلمة علقت في حلقي، وابتلعها الوقت. لم ترحل بين ليلة وضحاها. بدأت تذوب مثل سكر في ماءٍ ساخن. أولًا، صمتُها... ذلك الصمت الثقيل الذي ملأ البيت حين توقفت عن الحديث. ثم عيناها اللتان صارتا تُحدّقان في الفراغ كأنهما تبحثان عن شيءٍ لم تعثرا عليه. في النهاية، كانت نظرةٌ واحدة... نظرة طويلة اختزلت كل الكلمات التي لم تتفوه بها. منذ ذلك اليوم، صار الوقت يُقاس بثقل الأنفاس، لا بتحرُّك عقارب الساعة.
الليل أمسى أطول من النهار. أجلسُ أمام شاشة الكمبيوتر الفارغة، وأكتب لها رسائلَ لا عنوان لها. أقول لها إنني أخاف من الظلام الذي صار يلتصق بجدران البيت، وأسألها إن كانت تسمعني حين أناجيها. أضع الأوراق تحت وسادتي، وأتخيل أن أرواح الأمهات قد تُحلِّق ليلًا فتقرأ ما كتبته. في إحدى الرسالات، اعترفتُ لها بأنني لم أكن أعرف كيف أقول "أحبك"... كنتُ أعتقد أن هناك وقتًا أفضل، يومًا ما، حين تكون السماءُ أكثر زرقة، أو حين أكون قد صنعتُ شيئًا يستحقُّ الاعتذار. لكن الوقتَ كان يسرقنا دومًا.
ذات مساء، بينما كنتُ أبحث في درجها القديم عن إبرةٍ لخياطة زرٍّ سقط، وقعتْ ورقةٌ صفراء من بين أوراقها المبعثرة. خطٌّ مرتجفٌ يكاد يذوب في الصفحة:
"لا تخافي من الحزن ، إنه دليل أنك أحببت بصدق و لا تكرريني كوني انت."
توقفتُ. العالمُ كلُّه توقف. لم أسمع شيئًا سوى دقات قلبي التي صارت تُناديها: "أمي... أمي..." بكيتُ كما يبكي الأطفال حين يفقدون اللعبةَ الوحيدة التي تمنعهم من الخوف. كانت تواسيني حتى من وراء الغياب. تركت لي كلماتٍ قليلة تكفي لصنع جسرٍ فوق الهوّة ومنها تعلمت أن اصنع من الضعف قوة، تحدت نفسها و افنت عمرها كي نكون، لذا عهد علي أن لا اخون أمانتها و ان اواصل رسالتها.
الآن، لم أعد أخبئ الرسائلَ تحت الوسادة. اشتريت دفترًا جديدًا، واصبحت أكتب كلَّ ما أتذكره: عن صوتها حين كانت تُغنّي وهي تطبخ، عن طريقة لفِّها للكسكسي بحركاتٍ سريعة كالسحر، عن ضحكتها التي كانت تملأ البيت نورًا. اكتشفتُ أن الحزن ليس عدوًا، بل رفيق طريق. يجلس بصمتٍ إلى جوارك حين يرحل الجميع، يشاركك الخبز البارد، ويستمع إليك دون أن يُقاطع. هو لا يريد أن يهزمك، بل أن يُذكّرك بأنك أحببت بصدق، وأن الفقد هو ضريبة القلب الحي. اكتشفتُ أن الحزنَ ليس ثقبًا أسود، بل هو كنزٌ من الذكريات التي تلمع في الظلام. حتى فنجانَ قهوتها صار جزءًا من القصة... رمزًا لشيءٍ جميل لم ينكسر رغم الهشاشة.
ذات يوم، بينما كنتُ أكتب، هبَّت ريحٌ خفيفةٌ من النافذة المفتوحة، حرَّكت الأوراقَ على الطاولة، وأسقطت ورقةً قديمةً كانت عالقةً بين صفحات الدفتر. التقطتُها... كان خطّي أنا:
"أمي، اليوم صنعتُ لك كأسَ شاي بنعناع، كما تحبين."
لكني لم أقدِّمها لها أبدًا. ابتسمتُ بين الدموع. ربما كانت هنا، تراقبني وأنا أتعلم أخيرًا أن الحبَّ لا يحتاج إلى توقيتٍ مناسب.
و منذ ذلك اليوم، حين تمرُّ الريحُ من الفناء، لا أسمع أنينًا... أسمعُ همسًا. همسٌ يقولُ إن الأشياءَ التي نحبُّها لا تموت... إنها تتحوَّل إلى قصص.
تعليقات
إرسال تعليق