سيمياء الغلاف في المجموعة القصصية " تكدسات " للكاتبة رانيا شبيل بقلم الأستاذة بشرى دلهوم الجزائرية
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على خير الأنام
مقدمة:
يُعد الغلاف في العمل الأدبي أولى النوافذ التي يطلّ منها القارئ على النص، إذ يُجسِّد تفاعلًا بصريًا ودلاليًا يسبق الدخول في العوالم السردية. فهو ليس مجرد إطار زخرفي، بل خطاب بصري مستقل يحمل في طياته شفرات سيميائية تشكّل مفتاحًا لتأويل العمل وفهم مضامينه. ومن هذا المنطلق، تحتل القراءة السيميائية للغلاف مكانة مركزية في الدراسات النقدية المعاصرة، لأنها تكشف البعد الرمزي والدلالي للصورة واللون والعنوان والخط، باعتبارها عناصر تؤسس لعلاقة حوارية مع النص الأدبي.
في هذا البحث، نسلط الضوء على الغلاف الأمامي والخلفي لكتاب "تكدسات" للكاتبة رانيا شبيل، وهو عمل يندرج ضمن الأدب الذاتي والبوح الوجداني، وينبني على فكرة "التراكمات النفسية" وما تحمله من أزمات هوية وتمزقات داخلية. وقد ارتأينا أن نقوم بقراءة سيميائية لهذا الغلاف بكل تفاصيله النصية والبصرية، متوقفين عند مدلولاته النفسية، الوجودية، والجمالية، وذلك في سياق فهم أعمق لما تخبئه التكدسات من توترات خفية وصراعات داخلية.
من هي الكاتبة رانيا شبيل؟
رانيا شبيل، من مدينة بوفاريك ولاية البليدة، تبلغ من العمر 24 عامًا، وهي خريجة كلية الآداب واللغات جامعة البليدة 2 - العفرون، تخصص أدب عربي. حصلت على ليسانس وماجستير 2 في تعليمية اللغات. شاركت في العديد من الفعاليات الأدبية، ولديها مؤلف أدبي بعنوان "تكدسات" إضافة إلى كتب إلكترونية وورقية، من أبرزها: الكتاب الجامع الورقي "لأنك تستحقين"، "أرواح مفقودة"، "الفتاة الملتزمة"، ومجموعة قصصية قيد النشر بعنوان "عبق من الماضي". كما تعمل على رواية رعب قيد التأليف. رانيا صحفية في مجلة إلزا الأدبية الإلكترونية، وعضوة في مجلة النجاح الثقافية وفريق بصمة أمل الثقافي.
تعريف "تكدسات" في اللغة العربية ودلالاتها الرمزية.
كلمة "تكدسات" تأتي من الجذر العربي "كدس"، وتعني تراكم الأشياء بشكل غير منظم سواء كانت مادية أو معنوية، مما يفتح المجال لتحليل النصوص الأدبية والنفسية بناءً على هذا التراكم. في معجم الوسيط ولسان العرب، يشير التكدس إلى التراكم الفوضوي أو التجميع الكثيف.
التكدسات في الأدب وعلم النفس:
1. التكدسات في الأدب: قد تشير إلى تراكم الأفكار أو الصراعات داخل النص الأدبي. في روايات التيار الوعي، قد تُستخدم التكدسات لتمثيل أفكار متشابكة أو مشاعر متضاربة، ما يزيد من التوتر الدرامي. كما أنها تساهم في إبراز التوترات الداخلية التي يواجهها الشخصيات، مما يعزز من تعقيد الصراع في النص الأدبي.
2. التكدسات في علم النفس: تتعلق بتراكم الأفكار، الذكريات، أو العواطف في العقل، مما قد يؤدي إلى حالة من الضغط النفسي أو القلق. التكدسات العاطفية قد تسبب اضطرابًا داخليًا، مما يعوق التفكير السليم أو اتخاذ القرارات. هذا التراكم العاطفي قد يظهر في العديد من الأزمات النفسية، ويؤثر على توازن الفرد العقلي والعاطفي.
أولا:قراءة سيميائية في الغلاف الأمامي كتاب "تكدسات" للكاتبة رانيا شبيل:
1. العنوان: "تكدسات"
الدال: كلمة "تكدسات" توحي بتراكم الأشياء المادية أو المعنوية.
المدلول: يرمز إلى شيء متراكم، مثقل أو مختنق، سواء كانت مشاعر، أفكار، أو تجارب. قد يشير إلى وجود أزمة داخلية تتعلق بالزمن، الهوية، والذاكرة.
2. الصورة: امرأة شابة تنظر إلى انعكاس وجه عجوز
التكوين البصري: تظهر المرأة الشابة وهي تنظر من نافذة الطائرة، لكن انعكاس وجهها في الزجاج يظهر امرأة عجوز.
المدلول الزمني: هناك صراع بين الحاضر والماضي، حيث تنبع هذه الصورة من ذاكرة متشابكة. الزجاج المشروخ قد يرمز إلى الانقسام الداخلي أو التفكك في الذات.
رمزية العجوز: تمثل الزمن الماضوي، الذات المفقودة، أو الخوف من الشيخوخة.
3. اللون والإضاءة:
الألوان القاتمة والهادئة: توحي بجو درامي، وتُضفي إحساسًا بالحزن أو الثقل النفسي.
الضوء المسلط على وجه المرأة: قد يشير إلى لحظة كشف أو وعي داخلي، محاكاة لحظة الانكشاف النفسي.
4. الخط وتصميم العنوان:
الخط العربي المنحني والناعم: يوحي بالأنوثة والرقّة، لكنه في الوقت نفسه يتناقض مع كسر الزجاج في الصورة، مما يعكس توترًا داخليًا في محتوى الكتاب.
كلمة "تكدسات" تتشابك فوق صورة الانعكاس، مما يُظهر تراكمًا نفسيًا فوق المرآة الذاتية.
العلاقة بين النص والصورة:
العنوان والصورة في انسجام تام، حيث يُترجم العنوان "تكدسات" تلك التراكمات العمرية أو النفسية التي تعبر عنها صورة العجوز المنعكسة في الزجاج، رغم أن التي تنظر إليها هي شابة. التفاعل بين العنوان والصورة يوضح كيف يُمكن أن يعبر التكدس عن حالة من الازدواجية النفسية والصراعات الداخلية.
التأويل السيميائي النفسي والوجودي:
1. انعكاس العجوز بدل الشابة:
يعكس هذا الانعكاس انفصامًا في الهوية، حيث يظهر التوتر الداخلي بين ما كانت عليه المرأة في الماضي وما هي عليه الآن. العجوز تمثل الذات المقهورة أو المكسورة بسبب تراكمات الحياة.
2. التكدس كذاكرة متورمة:
الذاكرة المكتظة والمشاعر المكبوتة تخلق حالة من التصدع والضغط النفسي. التكدس النفسي يظهر في الغلاف كتكسر الزجاج، مما يدل على تراكمات الذات التي تنتظر لحظة انكشاف.
3. رمزية الطائرة والنافذة:
الطائرة قد ترمز إلى الهروب أو الانتقال، لكن في الغلاف، البطلة عالقة بين مكانين، كأنها لا تطير فعلًا، بل تراقب وتفكر في ماضيها ومستقبلها. النافذة تمثل الحدود بين الداخل والخارج، لكن في هذه الصورة تُظهر الانعكاس بدلًا من الرؤية الواضحة للعالم.
4. السرد القصصي في الغلاف:
الغلاف يُظهر مشهدًا سرديًا مكثفًا: امرأة شابة، في طائرة، تتأمل نفسها فترى عجوزًا، والزجاج مشروخ. هذا يعكس محتوى الكتاب الذي قد يعالج الحنين والندم، وصراع مع العمر والزمن، وتأثير التراكمات النفسية على الهوية.
خلاصة التأويل السيميائي:
غلاف "تكدسات" هو صرخة صامتة من الذات إلى ذاتها، إعلان عن شخصية مأزومة بالزمن، تراكم الذكريات، والألم النفسي الذي يكشفه الفحص الداخلي. الصور والرموز تظهر تفاعلاً عميقًا بين الزمن والذاكرة، الواقع والخيال، المرئي والمنعكس، مما يجعل من هذا الغلاف نصًا بصريًا مليئًا بالتراكمات النفسية والوجودية التي تستحق التأمل.
ثانيا قراءة سيميائية في الغلاف الخلفي لكتاب "تكدسات" – رانيا شبيل:
الغلاف الخلفي يحمل بُعدًا بصريًا ونصيًا يعمّق من دلالة "التكدس" كفكرة ومحور مركزي. سنحلله وفق عناصره الأساسية:
1. الخلفية اللونية والصورة:
اللون الأسود الغالب:
يعكس الكآبة، الغموض، الحزن، وربما الغرق في الذاكرة. الأسود ليس فقط لون النهاية، بل أيضًا لون العمق واللاوعي، مما يوحي أن النصوص تحمل تأملات ذاتية عميقة أو معاناة داخلية متراكمة.
الشق في الخلفية (الشرخ الأبيض):
يظهر بوضوح في منتصف الغلاف، وهو عنصر بصري لافت يُقسِّم الغلاف كما لو كان كيانًا مكسورًا.
الدلالة:
يمثل هذا التشقق رمزيًا تكسّر الذات أو تفكك الذاكرة.
يتناغم تمامًا مع عنوان "تكدسات"، وكأن هذا التراكم أدى إلى الانفجار أو الكسر.
يدل أيضًا على صدمة ما، أو انقسام داخلي في هوية الكاتبة أو المتحدث في النصوص.
2. اسم الكاتبة – رانيا شبيل:
مكتوب بخط واضح وأنيق باللون الأصفر، بارز عن باقي النص.
اللون الأصفر وسط السواد يعطي إحساسًا بالإشراق أو الأمل رغم الظلام، وكأنها تقول إن من هذا التكدس والشرخ قد تخرج الذات بنور أو وعي.
3. المقطع النصي:
يتحدث النص عن "قلب أرهقته الفوضى، أحلام مهدورة، شخصية متمردة..." إلخ.
هذه العبارات تمثل جوهر فكرة التكدسات النفسية والفكرية. النص ذاته محمّل بدلالات "الفيضان الداخلي"، حيث تتجمع المشاعر وتفيض على شكل تمرد وصراع.
تكرار ضمير المتكلم (أنا):
يكشف عن البعد الذاتي والاعترافي، وهذا يعزز فكرة أن الكتاب عبارة عن بوح شخصي، أو تشريح ذاتي من الداخل.
نبرة التحدي في النهاية:
"لأنني لن أخفي، سأكون واضحة..." تدل على المواجهة والقرار بكسر الصمت أو القيود.
سيميائيًا، تمثل هذه العبارات تصاعدًا سرديًا ينتهي بالتحرر، وكأن الكاتبة تمر من مرحلة التكدس إلى الانفراج.
4. الشيفرة البصرية في أسفل الغلاف:
الباركود والعلامة الطباعية:
عناصر تجارية وتقنية، لكنها تُظهر الطابع الاحترافي للنشر.
الخلاصة السيميائية:
الغلاف الخلفي يعكس بدقة مضمون "تكدسات"، فهو صورة للنفس المثقلة، المكسورة، لكنها في طور المواجهة والاستبصار. النص فيه صرخة داخلية، والانكسار البصري (الشق) يُحوّل الغلاف إلى ساحة شعورية. اللون الأسود يرمز للذاكرة المثقلة، والشرخ هو تمثيل مرئي للضغط المتراكم، واسم الكاتبة بلونه البارز هو إعلان عن الذات التي قررت أن تكتب.
خاتمة:
لقد كشف الغلافان الأمامي والخلفي لكتاب "تكدسات" للكاتبة رانيا شبيل عن عمق دلالي وبصري يستحق الوقوف عنده بوصفه نصًّا موازيًا للعمل الأدبي، لا يقل أهمية عن محتوى الكتاب ذاته. فمن خلال العنوان، الصورة، الألوان، الخط، والتركيب البصري، لمسنا كيف يمكن للتراكمات النفسية والعاطفية أن تتحول إلى شفرات بصرية مشحونة بالرمزية والمعاني الوجودية.
الغلاف لا يقدّم فقط مظهرًا جمالياً، بل يؤسس لمسار تأويلي، حيث تصير الذات الكاتبة في مواجهة صريحة مع انعكاساتها الداخلية، في لحظة بوح وتعرٍّ شعوري. التصدع، الشرخ، الظلال، والانكسارات الظاهرة على الغلاف ليست مجرد زخارف، بل علامات لحالة شعورية ممتدة، تسكن صفحات الكتاب وتنعكس على شخصياته ومضامينه.
وهكذا، يمكن القول إن غلاف "تكدسات" ليس مجرد إطار للعمل، بل هو عمل فني قائم بذاته، يُعبّر عن جوهر النص، ويمهّد لقراءته من منطلق سيميائي نفسي وجمالي، يجعل من تجربة القراءة أكثر انخراطًا وتأملًا.
الأستاذة بشرى دلهوم / البليدة /الجزائر
تعليقات
إرسال تعليق